بقلم :ابوبكر ادم
قد ترجع ضرورة طرح الدولة العَلمانيّة او النظام العلماني على بساط الحكم في السودان ضرورة ملحة اكثر من اي وقت مضي لكن كي يتم رفع الغموض ونفض الغبار عنها حسب ما تروج لها الجماعات الدينية لذلك اريد في هذ الجزء ان اسلط الضو عليها حتي تفهم كما هي حسب التعريف وبيان المفهوم والمضمون والتطوّر ونبدأ بالوقوف علي الدّوافع التي تدفع هؤلاء اي جماعات الاسلام السياسي الي رفض العلمانيّة،والتي نلخصها في أمرين اولهما : انها نظام يتم فيها الفصل التام بين مؤسسات الدولة والدين علي اساس الدين لله والوطن للجميع فبالتالي قد تسقط كل مبررات استخدام الدين لأغراض سياسية لذلك اصبح هؤلاء الاسلاميون
يجعلون للعلمانية صورة محرّفة ومشوّهة عند الشباب وبين أفراد المجتمع عامّة، صورة ما انفكّ دعاة الانغلاق والتعصّب واستعباد الأرواح والأبدان يعملون على ترويجها ويمعنون في إخفاء حقيقتها، فالعلمانيّة حسب ما يروجون "مفهوم غريب ودخيل وكل من يدعو لها هو ملحد وفاسد حتي تتسني لهم الفرصة ليتحكموا في مصير الناس بأسم الدين "
الامر الثاني
هو رفع الستار عنها وإجلاء صورتها وإظهار حقيقتها فالظروف والأوضاع الرّاهنة التي يمرّ بها المواطن والبلد والتخبط في كيفية ايجاد نظام لحكم السودان حسب التباين والاختلاف بعد ان استبان فشل الدولة الدينية عندما ان حاولو اعادتنا الي مؤخرة التاريخ حتي تمخضت من فشلهم المثل السوداني القائل (اخر العلاج هو الكي ) فنماذج نتائج الدولة الدينية في السودان ماثلة ليست بحاجة الي راوي حتي يفسر ويروي للناس شواهدها فالحرب والقتل بسسب الاختلاف في الدين التي جرت مقدماتها في الجنوب لنحصد اشواك الانفصال في الاخر وتهدّد باقي الاجزاء لأسباب مختلفة عن ما كان في الاول دارفور جبال النوبة النيل الازرق الشمال النيلي بسبب العرق واللون حتي غرق في عتمة قرون وسطى" جديدة، ممّا حتم علي الوطنيين من ابناء هذا البلد البحث في ايجاد نظام سياسي بديل يستطيع ان يلبي تطلعات واحلام الشعب والبحث عن قارب النجاة من طوفان الدّم العنصري الذي بات يحصد أرواح الآلاف لذلك فالعلمانية حسب تقديرنا كدعاتها من القوة العلمانية في السودان هي الطرح الامثل والخيار المناسب لحكم السودان اولا نسبة للتباين والتعدد التي تتشكل في تكوين الدولة السودانية وثانيا نسبة للنجاحات والتقدم في مجال التطور العلمي التي اثبتتها الدول العلمانية في اوروبا وامريكا ثالثا الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في هذة الدول بينما الدول زات الصبغة والنظام الديني هي ما زالت في غفوة كهوفها وغارقة في الجهل فما زالت تنتظر ان يأتيها الحاسوب والموبايل وكل عناصر الانتاج البشري مع المطر لتركد في البرك ومن ثم يتم ميراثها حسب قانون الميراث(للمرأة نصف ما للرجل ) فكثيرا ما توصف العلمانية بالدين حسب دعاة هذة النظرية اي دعاة الانكار العقلي وهي حتما تيّارات دينيّة متطرّفة لا تميّز بين الدّين والسّياسة، وفضلا عن استغلال الأنظمة الحاكمة للدّين في خطابها الانتخابي وفي محاربة المعارضة الدّيمقراطيّة. وقد دلّت التّجربة على أنّ التشويه لا يأتي إلى العلمانيّة من خصومها الموجودين داخل الحكم وخارجه فحسب بل حتي اللذين يجهلون حقيقة العلمانية هم بشكل او اخر يناصرون دعاة دولة الولي الفقية لذلك في هذة الجزء اريد ان اورد ما استقر علية المصطلح حسب المفكرين وخاصة خلاصة نتائج الباحث المصري الاستاذ فتحي القاسم والذي بدأ
بتدقيق وإيضاح العلاقة بين العَلمانيّة (بفتح العين" والعِلمانيّة (بكسر العين) واللائكيّة، هذا الثالوث الجاري على ألسنة النّاس والذي كثيرا ما يختلط أمره عند أغلبيّتهم.
1 - في التسمية
يتداول المتكلمون في كلامهم اليومي كما يتداول الباحثون المتخصصون في كتاباتهم أكثر من مصطلح لتسمية ما نسميه بالعلمانية. فهم حينا يستخدمون العَلمانية (بفتح العين) وحينا العِلمانية (بكسر العين) وحينا آخر اللائكية من الأصل الفرنسي Laïcité. وإن كانت الصيغة الأولى أقل هذه الصيغ رواجا رغم كونها تبدو الأصح والأنسب مثلما سنبين ذلك لاحقا.
وقد اختلف المترجمون والدارسون في التسمية اختلافهم في المفهوم الدقيق. اختلفوا بين العلمانية (بفتح العين) والعلمانية (بكسر العين) واللائكية وتباينت آرائهم حين أرادوا الاتفاق على تعريف موحد لهذا المتصور، وهنا اسعى إلى عرض مختصر لهذا الجدل الذي دار ويدور حول المسألة عسانا نخرج بما يرة الباحثون الرأي الأصوب، حتى يقع تجاوز عتبة الموضوع نحو الجوهر الذي هو حقيقة العلمانية ولبها النافع، علما وأن خصومها وأعداءها أسهموا دائما في الإبقاء على التباس مفهومها بل وفي الترويج لمفاهيم هي براء منها، مما يستوجب التصحيح والتوضيح، وإزالة الشُّحن العقدية والذاتية التي تحجب الرؤية الموضوعية وتحُول دون المعرفة، وتهدف إلى التشويه. أول ما نريد الإشارة إليه هو أن هذه المصطلحات نشأت في فضاء الثقافة الغربية، فكانت التسميات الأولى من نصيب أهل المواليد. ومثل هذا المنشأ لا ينفي طبعا الطابع الإنساني عن الأفكار. فالعَلمانية (بفتح العين) يقابلها في اللسان الفرنسي sécularisme والعلمانية (بكسر العين) scientisme واللائكية Laïcité.
أما العَلمانية (بفتح العين) فتعود إلى أصلٍ هو العَالم (بفتح اللام) الدنيوي، ومنها العلمنة sécularisation من علمن séculariser ذي الجذر اللاتيني بمعنى siècle (قرن) إذن دلالة الزمان الواقعي، والحياة الوضعية. وتتفق العَلمانية (بفتح العين) والعِلمانية (بكسر العين) في الوقوف على أرضية التطور العلمي والترقي الذهني للإنسان، وإذا كانت الأولى مفهوما قديما عريقا على صلة بالمنازع الفلسفية المادية وبمسار السيطرة على الطبيعة واكتشاف قوانينها وتسخيرها لخدمة البشر، فإن الثانية لم تزدها إلا رسوخا بما تحقق للعلوم من فتوح متتالية قلصت سلطان الجهل وأتاحت إحاطة أكبر بظواهر الكون وفهما أعمق للأديان وعقلية أوسع لإدارة شؤون الاجتماع البشري.
وتعود اللائكية إلى الأصل اللاتيني "لايكوس" laikos بمعنى ما هو من مشمولات أنظار الشعب لا أنظار رجال الدين (الإكليروس) وما هو مستقل عن الهيئات الدينية (دولة لائكية، قضاء لائكي، تعليم لائكي... أي منظم وفق قواعد اللائكية وقيمها مع وجوب ملازمة الحياد على الصعيد العقيدي).
وحسب ما انتهى إليه الباحث فتحي القاسمي في أطروحته "العَلمانية وطلائعها " فإن اللائكية تجسم الجانب العملي والسياسي للعلمانية" وأنها "أصبحت في القرن التاسع عشر تيارا فكريا قويا وموجة ذهنية نشيطة استقطبت الاهتمام وأصبحت لها نواديها ومؤلفوها المدافعون عنها" (ص35).
وتاريخ اللائكية هو تاريخ صراعها ضد الكنيسة من أجل رفع وصايتها على الأرواح والأبدان وفرض احترام حرية المعتقد وحرية الفكر عملا على تكريس ما ورد في إعلان حقوق الإنسان الذي أفرزته حركة النهضة والتنوير وتوجته الثورة الظافرة في فرنسا. واستمر التيار اللائكي هناك يرسخ مبادئ الحرية السياسية والشخصية ويعمل على علمنة السلطة، الأمر الذي لم يكتمل دستوريا إلا في أواسط القرن الماضي، ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان غداة الحرب العالمية الثانية كي يدعم هذا التيار. وكثيرا ما تم الخلط بين العَلمانية واللائكية حتى عند الباحثين وذلك نظرا إلى كون الثانية اتخذت شكل الأولى أحيانا، وبعضهم استخدم "الحيادية" و"التسامح" بدل اللائكية. وبينوا أنها مذهب عقلاني يقول باستقلالية الدولة عن المسلمات الغيبية. ويستخلص القاسمي من التعاريف التي استعرضها ومن المسار التاريخي الذي عرفته اللائكية أن الهدف كان "جعل الإنسان المسؤول الأول والأخير أمام مصيره في الدنيا. وأن التدين أمر لا يهم إلا صاحبه، وثمة قانون يخضع له الجميع منذ ولادة كل فرد، فلا فرق بين متدين وغير متدين..."(ص39) إذن فهي لا تعني الفصل بين الدين والسياسة فحسب وإن كان ذلك هو حجر الزاوية لأن بقية الإجراءات استتباعية متولدة عن الفصل بين الدين والدولة، بين الشأن العقـَدي الذي يُحل فرديا والشأن السياسي الذي يُحتكم فيه إلى المجموعة.
وفي المحصّلة قد يبدو النقاش حول التسمية من قبيل الترف خصوصا والفرق بين تسمية وأخرى لا يتجاوز حركة (فتح العين أو كسرها). واعتقادنا أن الحياة، أي الاستعمال المطرد، بصدد انتخاب التسمية المناسبة صوتيا (سهلة التداول) ودلاليا (حمّالة المعنى المراد) وثقافيا (ذات الأصل في اللسان حسب النطق) وقد تكون "العلمانية" (بكسر العين أو بفتحها) هي الحل، والتجربة كفيلة بفرض الكسر أو الفتح حين يصبح مشروع العلمنة (أو الأليكة) مطروحا على جدول الأعمال والأقوال في المجتمع وحين يقع تجاوز حلقات المثقفين المتخصصين علميا أو سياسيا. إن الحراك الفكري والسياسي والاجتماعي هو الذي يفرز مصطلحاته وتسمياته، لا النقاش المجرد والنظر الذهني الصرف.
2 - شيء من التاريخ :
ونعود إلى العلمانية، بعد حديث المقدمات والتسميات، كي نقف على مسار نشأة الفكرة ونموها وتطورها واتساع نفوذها، حتى لا يتصور أحد أن العلمانية كانت مجرد شطحة فكرية أو -كما لا يزال خصومها المتزمتون يرددون بين الفينة والأخرى في بعض الفضائيات- مجرد بدعة.
لقد عرفت العلمانية مخاضا طويلا في رحم المجتمعات الغربية التي كانت تعيش حراكها التاريخي المعروف وتستيقظ من سبات القرون الوسطى وتدخل عصر الأنوار والثورات الفكرية والعلمية والاجتماعية والسياسية، وتبحث عن الأسس والقواعد المتينة التي تكفل لها بناء نفسها وإقامة الأنظمة التي يتعايش في ظلها البشر مهما شطت بهم الأجناس والأعراق والأديان والألوان.
لم تعرف المجتمعات قبل ظهور النظام العلماني العلمانية لكنها عرفت – في فترات ازدهارها الحضاري- مظاهر من التحرر الفكري والتسامح الديني والنفوذ العقلي يمكن اعتبارها بمثابة المقدمات التي انتهت في العصر الحديث إلى وعي العلمانية وإقرارها ركنا من أركان النظام الديمقراطي.
والناظر في التاريخ، وتحديدا هناك حيث تبلورت فكرة العلمانية وشهدت نضجها وتقنينها دستوريا وتطبيقها، يقف على دور التطور العلمي والاجتماعي الذي عاشته مجتمعات الثورة الصناعية، في هذه العملية، خلال القرون الثلاثة الماضية، وخاصة منها التاسع عشر وما كان للثورة الفرنسية (1789) والثورات الاجتماعية المتلاحقة، داخل فرنسا وفي المراكز الأروبية الكبرى (انجلترا، ألمانيا، إيطاليا...) التي قادتها البورجوازية ضد النظام الإقطاعي الذي كانت الكنيسة سنده في تعطيله لعجلة التقدم، ويقف أيضا على الدور الذي يعود إلى الصراع داخل الكنيسة نفسها بين الجمود ونزعة التطور، تحت تأثير الكشوف العلمية والثورة الاجتماعية.
ولسنا في حاجة إلى إعادة عرض المحطات الكبرى التي عرفها تاريخ المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة، وسرد قائمة الأعلام الذين أضاءوا طريق المعرفة بالقلم والاختراع والاكتشاف منذ أن قال فولتير ما معناه:" لننشغل بخدمة حديقتنا" وما يعنيه ذلك من انصراف إلى العمل والعمل على تسخير الطبيعة والارتقاء بنوعية الحياة، وما معناه: "قد أختلف معك في الرأي لكني مستعد كي أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك" بما يعني ذلك من رفع ليد القوى المتسلطة والمكبلة (الكهنوت، الإقطاع...) عن الإنسان حتى يتسنى له أن يحقق إنسانيته ويتمتع بالمواطنة، ويفتق مواهبه المخبوءة وطاقاته المطموسة، فوق الأرض.
لقد غيرت الثورة الصناعية وبروز قوى وعلاقات الإنتاج الرأسمالية - التقدمية مقارنة بالنمط الإقطاعي- أسلوب الحياة التقليدي وقلصت من نفوذ الجماعة على الفرد وأطلقت النزعة الاستقلالية والإرادة الفردية من عقالها، وأحدثت نقلة في مستوى النظرة والعلاقات، وسلّم القيم. ثم جاء المشروع الاشتراكي الذي أعطى نفسا إضافيا لتيار العلمنة وارتقى نظريا وسياسيا بالطرح العلماني حين رسخ حرية المعتقد واعتبر التدين مسألة شخصية لا دخل للدولة فيها، ففصل فصلا واضحا وحاسما بين السياسة والدين ومنع تديينها وتسييسه، وعمل على محاربة الاستغلال والفاقة المادية والمعنوية وسائر الآفات التي من شأنها دفع الناس إلى الإغراق في الماورائيات والانصراف عن إرادة الحياة.
والتحولات الاجتماعية الناهضة على قاعدة الثورة الصناعية إنما هيأت لها ورافقتها حركة فكرية وفتوح علمية ردت سلطان الجهل على أعقابه ومكنت من ترويض الطبيعة والمسك بزمام القوانين التي تحكمها، فضلا عن إدراك القوانين التي تحكم تطور المجتمع البشري، وفي مقدمتها قانون الصراع الطبقي، بعد النقلة النوعية في علم الفلسفة وعلم الاجتماع المحققة على يد الماركسية. وتجسدت العلمانية بتماسك خلال التجربة الاشتراكية الأولى في كافة مجالات الحياة العامة، رغم الغلو البيروقراطي والممارسات القسرية أحيانا، والغريبة عن جوهر الخط العلماني في سياسة الدولة الاشتراكية، وذلك نتيجة الخلط بين الموقف الفلسفي والموقف السياسي من الدين.
وقد راهن العلمانيون على المدرسة في إنجاح المشروع، فنادوا بعلمنة –أو أليكة- التعليم الذي بنوه على شعارات ثلاثة من شأنها أن تفتحه أمام العموم، ألا وهي :
مجانية التعليم
إلزامية التعليم
لائكية التعليم
وشهدت المدرسة الفرنسية تطبيق هذه السياسة التي ما إن وصل الاشتراكيون عن طريق "كومونة باريس" إلى الحكم حتى سارعوا بتكريسها. وكانت العلمانية تمثل الاتجاه الرسمي للدولة في ظل الجمهورية الثالثة بفرنسا على امتداد 70 عاما من حياتها (1870 - 1940) وكانت القوانين الخاصة بعلمنة المدرسة الفرنسية قد بدأت في الصدور منذ أواسط القرن 19. لكن رياح العلمنة كانت تهب منذ القرن 18 وعلى إثر الثورة (1789) خاصة حين تم إعلان حقوق الإنسان الذي كرس إرادة التحرر من الهيمنة الدينية والسياسية، والذي خصص البند الثامن عشر لاعتبار الاعتقاد مسألة شخصية تلقائية لا يفرضها جهاز، فضلا عن تحريم الرق والمساواة في الحقوق وجعل التعليم حقا مجانيا. ثم جاء قانون 1790 الذي ألغى الأوامر الدينية (فيما يتصل بالدولة) ورفض نابليون بونابرت وهو يعتلي عرش فرنسا أن يتولى البابا وضع تاجه. وتم في 1905 صدور القرار القاضي بالفصل بين الكنيسة والدولة، كما تم قطع العلاقات الديبلوماسية مع البابا. إلا أن الكنيسة كانت تسعى بدورها إلى تليين مواقفها والتكيف مع كثير من المفاهيم الحديثة حتى جاء الوقت الذي أقرت فيه بأهمية الديمقراطية الليبرالية وبالمؤسسات الديمقراطية رغم عدم تخليها عن مناهضة التيار العلماني، وظهرت الأحزاب "الديمقراطية المسيحية" وتعززت نزعة التمرد داخل الكنيسة ضد الكهنوت المتحجر.
وفي النشر القادم سنواصل رصد العوامل التاريخية التي أفضت إلى تثبيت العلمانية ركنا من أركان النظام الديمقراطي الحديث