لقد سعيت إلى تحليل الاتفاقات مع التركيز بشكل خاص على اتفاق سلام دارفور بسبب أهمية قضية دارفور وتأثيرها على القضية السودانية. أسفرت الحرب المنهجية في دارفور عن أضرار جسيمة ومظالم أدت إلى توجيه الاتهام إلى الرئيس السابق عمر البشير وعدد من أفراد نظامه من قبل المحكمة الجنائية الدولية. ولهذا السبب، من بين أمور أخرى، تنبع أهمية ملف دارفور. لذلك، من دون معالجة قضية دارفور بالشكل اللائق، سيبقى السلام حلم للشعب السوداني، ولا سيما سكان دارفور الذين يعانون أكثر من غيرهم.
في أعقاب توقيع اتفاقية السلام في جوبا، في 3 أكتوبر 2020، أصبحت الفوارق بين المؤيدين والمعارضين واضحة وأحيانا عنيفة. بالنسبة لمؤيدي اتفاقية جوبا، هناك رأي محق في أن الحرب لم تسفر عن أي شيء سوى المزيد من الألم والخسائر في الأرواح. كما قيل إن اتفاقية جوبا ليس مثل أي اتفاق آخر تم التوقيع عليه من قبل لأنه جاء بعد ثورة ديسمبر 2019 ولم يعد المخلوع البشير في السلطة. إما نحقق السلام الآن أو لا نحققه أبدًا، كما يقول مؤيدو اتفاقية جوبا.
في المقابل، يجادل معارضو اتفاقية جوبا بحق بأن السودان قد وقع العديد من الاتفاقيات في تاريخه ولم ينفذ منها واحدة. تهدف الاتفاقية إلى تقاسم السلطة بين الأطراف المتحاربة ولكن ليس بالضرورة للأشخاص الذين عانوا أكثر من غيرهم مثل النازحين واللاجئين. من المهم ملاحظة أنه لا المعارضين لاتفاقية جوبا ولا مؤيدوها يرفضون فكرة السلام من حيث المبدأ. فالجميع يسعى إلى سلام حقيقي يصنعه الشعب من أجل الشعب.
لقد كرست بعض الوقت لقراءة اتفاقية جوبا بدقة. وللنقاش المستفيض، قمت بقراءة ثلاث اتفاقية أخرى تتعلق بدارفور: اتفاق أبوجا في عام 2006، واتفاق الدوحة في عام 2011، والاتفاق حول القضايا القومية في عام 2020 (جوبا). والهدف هو إجراء تحليل حول الاختلافات إن وجدت وما إذا كانت جوهرية. شيئاً واحداً يمكنني أن أؤكده، هذه القضية تستحق تحليلًا عميقاً. يجب أن يكون هذا الجزء من سلسلة المقالات هي نقطة البداية.
في ظاهرها، تبدو اتفاقية جوبا و كأنها تغطي العديد من القضايا بحيث يتم عكسها على أنها شاملة. يصبح السؤال إذن، ماذا نقصد عندما نقول اتفاقية شاملة؟ هل تشير إلى جوهر القضايا التي تم تناولها أم إلى شمولية الاتفاقية من حيث الأطراف المشاركة؟ قد يكون صحيحًا أن الاتفاقية سعت إلى تضمين جميع الأطراف المتحاربة. ومع ذلك، لم تنجح في ضم أطراف ذات ثقل عسكري وشعبي لا يمكن الاستهانة بها ناهيك عن الاطراف الأخرى التي لا تزال تحمل السلاح ولكنها تصور بأنها "صغيرة". يسعى الاتفاق الشامل إلى إسكات جميع الأسلحة قبل البدء في عمليات البناء والتنمية، وهذا ما لم يتوفر على الأقل الأن.
فيما يتعلق بالقضايا المدرجة في الاتفاقية، صحيح أن الاتفاقية تضمنت العديد من القضايا ذات الأهمية للشعب السوداني والدارفوريين على وجه الخصوص، ومع ذلك، فإنني أزعم أن لغة الاتفاقية مضللة وغامضة، مما سيثير لاحقًا أسئلة جدية خلال عملية التنفيذ.
فيما يلي بعض الأمثلة:
أولا: في بروتوكول تقاسم الثروة، فشل الاتفاق في تعريف السكان الجدد في دارفور بأنهم مستوطنين جدد. وبدلاً من ذلك، أشارت إليهم على أنهم أولئك الذين يعيشون في أراضي الغير بشكل غير شرعي (المادة 18.4 من البروتوكول). يرفض الاتفاق الاعتراف بوجود مستوطنين جدد قدموا إلى دارفور كجزء من خطة لتغيير الهوية العرقية للإقليم (تهجير واستبدال) كما أعلنها آنذاك موسى هلال قائد مليشيات الجنجويد في بداية النزاع في دارفور. سنتحدث عن هذه الجزئية بتفصيل لاحقاً.
ثانياً: ينص البروتوكول كذلك على أن تقدم مفوضية إعادة الإعمار والتنمية جميع الخدمات الضرورية للمستوطنين الجدد في دارفور. سيتم تقديم هذه الخدمات كجزء من الأموال المخصصة للتعويضات في دارفور.
ثالثاً: كما ذكرت في تعليق سابق، ينص البروتوكول على أن الحكومة الاتحادية ستزود دارفور بنسبة 40٪ من عائدات النفط والتعدين المنتجة في دارفور لمدة عشر سنوات. في الواقع، ستدفع دارفور للحكومة الاتحادية نسبة 60٪ من عائدات النفط والتعدين. النسبة المئوية هنا ليست هي القضية، بل إن الأطراف في الاتفاقية تحتفل به باعتباره إنجازًا لم يحدث من قبل. من الإنصاف القول إنه وفقًا لبروتوكول تقاسم الثروة، لا يتم التعامل مع دارفور بخصوصية بسبب تعرضها للإبادة الجماعية وباعتبارها أسوأ مأساة إنسانية في القرن الحادي والعشرين كما أشارت إليها الأمم المتحدة و إلاّ لخُصصت جميع العائدات لبناء ما دمرته الحرب و جبر الضرر.
رابعاً: من المتفق عليه كذلك أن يتعهد السودان بدفع مبلغ 750 مليون دولار أمريكي سنويًا ولمدة عشر سنوات لتنفيذ اتفاقية السلام. لم تذكر هذه الاتفاقية في أي مكان عن تعهد الحكومة السودانية بدفع تعويضات فردية لضحايا الفظائع في دارفور – ولكنها تحدثت عن أن للأفراد الحق في التعويض سواء كان مادياً، نفسياً، الخ. هنالك ثلاث مشكلات رئيسية في هذه الجزئية من الاتفاقية:
أولاً، سيُخصَّص معظم مبلغ الـ 750 مليون دولار في الغالب للتكاليف الإدارية (المفوضيات، السلطة الإقليمية، الخ) وليس للضحايا بشكل مباشر. إذا افترضنا أن هذه الأموال ستذهب مباشرة إلى أهل دارفور، فستكون حوالي 750 دولارًا سنويًا للفرد بإفتراض أن عدد سكان دارفور يبلغ سبعة ونصف مليون نسمة.
ثانيًا، سيُخصَّص جزء من هذا المبلغ أيضًا لخدمات المستوطنين الجدد، كما ذكرت آنفاً (وفقًا للمادة 18.4 من بروتوكول تقاسم الثروة).
ثالثًا، يعتبر جمع الأموال من أجل تنفيذ الاتفاقية هو مسؤولية مشتركة بين حكومة السودان وحركات الكفاح المسلح. تعتمد الأطراف في الاتفاقية بشكل كلي على الشركاء الدوليين والإقليميين لجمع الأموال وتنفيذ الاتفاقية وهذا ما يجعل امر تنفيذ الاتفاقية بالغ التعقيد.
في الجزء القادم سأستعرض البروتوكولات الأخرى من خلال تحديد القضايا التي يجب أخذها في الاعتبار في سعينا لتحقيق سلام شامل. سأرد على الحجة القائلة بأن هذه الاتفاقية فريدة مقارنة بالاتفاقيات السابقة.
ارجو النقاش البناء الذي يهدف الي تصحيح المسار وتحقيق شعار حرية سلام وعدالة للجميع.
تحياتي،
بقلم / معتصم علي